ثمة ما يعوق الاشتباك النقدي مع الإخوان في هذا الظرف، فأفراد الجماعة – وبالأخص البعيدين عن القيادة، من طلبة ومهنيين ونقابيين – يتعرضون لقمع أمني مستند لخطاب إعلامي لا يكتفي بتوجيه نقد جذري مستحق لهم، وإنما يستخدم خطاباً جوهرانياً ينزع عنهم إنسانيتهم ويُشرْعن قتلهم سواء بالرصاص في الطرقات أو في قاعات المحاكم بأحكام الإعدام الجماعي، فضلاً عن شرعنة ممارسات تمييز واسع ضدهم. وتتضاءل في هذا الظرف المساحة المتاحة للنقد من غير التورط في مثل هذا الخطاب، كما تتغير أولويات النقد في ظل إحجام واسع عن تسليط الضوء على ممارسات تستحق النقد يتورط فيها القائمون على الحكم حالياً.
غير أن الظرف ذاته يوجب الاشتباك النقدي معهم، لأن ثمن ممارساتهم لم يزل باهظاً يدفعه أنصارهم وخصومهم، ولأن الضغط الحالي عليهم ينتج تحورات مهمة في الجماعة ينبغى تسليط الضوء عليها وهي في طور التشكل، ولأنه ينبغي الاشتباك للحفاظ على مساحة نقدية تعيد للإخوان إنسانيتهم التي نزعها أنصارهم وخصومهم بخطابات جعلت لهم جواهر ملائكية وشيطانية. وتحاول هذه الورقة بالتالي تفسير التغيرات الطارئة على جماعة الإخوان، والتي تتحول بشكل متزايد لـ”فرقة“ بالمعنى الديني للكلمة، وهو تحول أكثر جذرية من الميل المتزايد للعنف، وذلك بالنظر في أسبابه ونتائجه.
قراءة في الأصول.. طبيعة جماعة الإخوان وتطورها:
يَحسُن – لفهم المتغيرات الحالية في الإخوان – تسليط بعض الضوء على سياق ومكونات نشأتهم، المرتبطة إلى حد بعيد بعمليات التحديث المتزايدة منذ منتصف القرن التاسع عشر، والتي كان من أهم تجلياتها صعود الدولة الحديثة وهيمنة منطقها،على نحو أدى (في مصر كما في أكثر بلدان العالم الثالث) لإعادة تشكل الدين، وكذا لما يسميه وائل حلاق بالموت المؤسسي للشريعة، التي تحولت بالتالي من مفهوم مهيمن على الحياة الاجتماعية، تجسده الرئيسي اجتماعي وأخلاقي ويظهر بالأساس في مؤسسات الأزهر والأوقاف والطرق الصوفية، إلى مفهوم سياسي وقانوني. وتفككت بعض التصورات الكلامية الرئيسية (كقضية الحسن والقبح، والمعرف لحكم الله) بصعود ضغط مفهومي ”الضرورة“ و”المصلحة“ (بعد إعادة تعريفهما في إطار معرفي مغاير)، وكانت النتيجة فتح الباب أمام استبدال ما يسميه كافيراج بـ”الدين السميك“ (المتألف من معتقدات ميتافيزيقية ونظريات معرفية وتصورات سوسيولوجية مركبة فيها حد أدنى محدود من الاشتراك، والذي يصعب بالتالي استعماله في التعبئة السياسية) بـ”الدين النحيف“، الذي لا ينشغل بالقدر ذاته بالقضايا الدينية (الكلامية والأصولية والفقهية)، وينصب التركيز فيه على قضايا الهوية، ويسهل تسييسه لصناعة وحشد مجتمعات متخيلة على أساس تلك الهوية.
في هذا السياق نشأت جماعة الإخوان، فكانت حركة حديثة، حلت في الدولة محل الطرق الصوفية قبلها، إذ عبرت عن تيار متدين يسعى لتحكيم الشرع من غير تحد لطريقة إدارة المجتمع (الطرق من خلال المؤسسات الأهلية، والحركات الإسلامية من خلال الدولة)، ولذلك لم يكن غريباً أن تستخدم الحركات الإسلامية شبكات الطرق الصوفية (التي أهملت وأعيد تعريف وظيفتها للأسباب السابق ذكرها) في التوسع والانتشار، وأن تستند لبعض الطقوس والمفاهيم الصوفية (بعد أن تعيد تعريفها وتوجيهها) تماشياً مع الأعراف والثقافة السائدة وقتئذ، خاصة خارج المدن التي كانت آثار التحديث قد أتت عليها، وأن تصل الحركة من خلال هذه الشبكات
إلى القرى والنجوع على نحو لم يصل إليه غيرها.
كان هذا السياق، وما تلاه من سياق قمعي منذ منتصف القرن العشرين، حاكماً للتطورات التنظيمية للجماعة، التي تشكلت فيها تناقضات تتصل بمدارسها ومشاربها ومصالح أعضائها، وحافظت مع ذلك على تماسكها مستندة إلى استراتيجية من أربعة أضلاع أولها وضع صيغ شديدة العمومية تصلح لاستيعاب التناقضات داخلها (سمحت بذلك التغيرات السياقية في التصورات السائدة للدين)، وثانيها الاستناد للديمقراطية المركزية، وثالثها ”ميكنة خط الإنتاج“ ليصير أعضاء التنظيم متشابهين فتقل الرؤى النقدية التي تزعج التماسك التنظيمي (لم يكن التنظيم يحتاج لـ”عقول“ أعضائه وقت انسداد الأفق السياسى قبل الثورة، وإنما احتاج ”رؤوسهم“ كأعداد في المظاهرات والانتخابات)، ورابعها مركزة مفهوم الضرورة المبيحة للمحظورات وإعطاء القيادات وحدهم شرعية الالتجاء إليها، لتصير ”الشريعة“ لفظاً غير مستقر المعنى والأحكام، ويصير الثابت الأوحد هو مصلحة التنظيم.
وكانت ثمرة هذه الرحلة نشأة تنظيم يقوم على أسس فكرية ”نحيفة“ تبسّط مسألة الهوية وتسمح باستدعائها سياسياً، وتفكيك التصورات الشرعية التابعة للتنظيم بحيث صار هو متحكماً فيها، وغياب أى تصورات عميقة أو جادة تتصل بوظيفة التنظيم (غير الوظائف الانتخابية أو السياسية المباشرة) أو استراتيجياته.
من السجن إلى الحكم والعكس:
انتقل الإخوان سريعاً – في أعقاب ثورة 2011 – من هوامش الاضطهاد إلى قلب الحياة السياسية، بحيازة الأكثرية البرلمانية في انتخابات 2011-2012، ثم فوز الدكتور محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية في صيف 2012، ولم تسمح سرعة الانتقال بالمتغيرات الفكرية والتنظيمية اللازمة لإنجاحه؛ فلم تطور الجماعة مشروعاً سياسياً ينتقل بها من خانة «الهوية» إلى خانة «التدبير»، ولم تتغير بنيتها التنظيمية على نحو يسمح باستبقاء (فضلاً عن اجتذاب) الكفاءات، وظل التنظيم محكوماً بالعقل الإجرائي في غياب التصورات الاستراتيجية، فاندفع لحصد المكاسب الانتخابية في ظل غياب المشروع السياسي، بل في ظل عدم الانشغال به، إذ ظلت ما يسميه حازم قنديل بـ«الحتمية الدينية» – القائلة بأن الحل لمشكلات الواقع يتمثل بشكل رئيس لا في تطوير مشروعات سياسية واقتصادية واجتماعية، وإنما في التقرب إلى الله- مهيمنة على العقل الإخواني، وهكذا حوصر الإخوان بين خيال سياسى فقير (بسبب انعدام الأفق السياسي في السنوات السابقة للثورة، وطبيعة البنية التنظيمية المشار إليها) من جهة، وواقع ضاغط (بسبب المد الثوري المهدد للبنية الفوقية للدولة التي تسيدوها، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الموروثة، ومقاومة شبكات المصالح في مؤسسات الدولة للتغيير) من جهة أخرى.
مثَّل الوصول للحكم المصحوب بعدم الإنجاز تهديداً جاداً للتماسك التنظيمي للإخوان، إذ صار بالإمكان – للمرة الأولى ربما – تقييم قيادات الجماعة بناء على نجاحهم السياسي، بعد أن كان القمع يتكفل بتجنيبهم هذا التمحيص للأداء، واحتاجت القيادة لإيجاد مبررات لعجز الرئيس عن الوفاء بالتزاماته التي قطعها على نفسه في الحملة الانتخابية، سواء ما يتعلق بوعود المائة يوم، أو القصاص، أو تحسين الوضع الاقتصادي والأمني على سبيل المثال، واستندت في ذلك إلى استراتيجية من شقين، أولهما استدعاء ثقافة المواجهة وتوجيه اللوم المتكرر للأعداء الخارجيين بسبب سعيهم لإفشالها، بدأ ذلك في البرلمان باتهام الحكومة بعدم التعاون والسعي لتشويه صورة البرلمان أمام من انتخبه، ثم في تذرع الرئيس بالإعلان الدستوري (الذي أصدره العسكريون قبيل جولة الإعادة) في عدم القدرة على العمل، ثم بلوم القضاة على تعطيل كل مسعى للإصلاح، فالإلقاء باللوم على عدم وجود دستور يساعد على إيجاد بيئة اقتصادية صحية، وأخيراً التوجه للوم المعارضة والإعلام بإفشال الرئيس، وعلى الرغم مما في بعض هذه الدعاوى من وجاهة (وكثير من المبالغة) بيد أن وجود تلك العوائق كان بديهياً لكل متابع، والتذرع بها إنما يكشف عن غياب التصور الحاكم لكيفية التعامل معها.
أما الشق الثانى للاستراتيجية فكان افتعال أزمات محدودة تحافظ على التماسك التنظيمي عن طريق استدعاء تهديد هوياتي/تنظيمي (ولا فرق يذكر بينهما في ظل تحول التنظيم في عقول جل أفراده للهوية والمرجعية) يستوجب الوحدة وتأجيل الخلاف، ومن ثم تشعر الجماعة بقدر من التهديد يعيد توحيدها على أساس التعبئة الدينية، وهو ما تجلى – على سبيل المثال – في مليونية الشرعية والشريعة (المدافعة عن الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي في نوفمبر 2012، والذي خلا من أية إشارة للشريعة ومع ذلك صُور الرافضون له كمهددين للهوية الإسلامية للبلاد)، وفي اللجوء المتزايد للحلفاء ”الإسلاميين“ عوضاً عن توسيع التحالف السياسي في ظل تنامي الاضطراب في الفترة بين فبراير ويونيو 2013، وغير ذلك.
وعلى الرغم من النجاح النسبي لهذه السياسات في الحفاظ على التماسك التنظيمي، فإن الفترة ما بين ربيع 2012 وصيف 2013 (أي الفترة التي وصل فيها الإخوان لذروة قوتهم السياسية) قد شهدت تهديدين رئيسين للإخوان، أولهما تناقص القدرة على التجنيد، خاصة بين الأوساط الطلابية التي لم يعد بإمكان الإخوان تقديم أنفسهم فيها كجماعة معارضة معتدلة دينياً ونقية أخلاقياً ولها طابع نضالي (وهي صورة مكنتها خلال سنوات القمع، وصعود تيارات العنف الديني، والتهديدات الجماعية التي واجهت الأمة في فلسطين والعراق، من اجتذاب العديد من الأنصار)، ولم يؤد تغير الموقع الاجتماعي للإخوان إلى تهديد قدراتهم التجنيدية فحسب، وإنما ساهم أيضا في تغير طبيعة الدوائر المحيطة بالجماعة، مع اقتراب العديد من رجال السلطة منها، على نحو أوجد ارتياباً أسفر عن تنامي المساحة الفاصلة بينها وبين جمهورها غير المنظم من الإسلاميين المعتدلين. وأما التهديد الثاني فكان التراخي المتزايد في صفوف الجماعة، والمتجلي على سبيل المثال في تراجع نسب الالتزام باللقاءات الدينية الأسبوعية في الجماعة، وذلك بسبب غياب الضغط الأمني الذي دفع في السابق أفراد التنظيم للتمركز حوله.
وهكذا حل صيف 2013 وجماعة الإخوان تعاني تحديات غير مسبوقة، فهي من جهة تواجه فشلاً سياسياً تحاول تحميل أطراف خارجها مسئوليته غير أنها تبقى – بحكم موقع المسئولية – متحملة لنتائجه، ومن أخرى تواجه – للمرة الأولى في تاريخها – غضباً شعبياً متزايداً بسبب موقعها وأدائها السياسي في الظرف الثوري، وتواجه بالتوازي مع ذلك تحدياً تنظيمياً يتمثل في تراجع القدرة على التجنيد، وتنامي البون بين الجماعة وأنصارها التقليديين، والتململ الداخلي المنذر بتصدع تنظيمي، وبدا تجاوز الجماعة ممكناً في ظل انفتاح الآفاق السياسية الذي شجع العديد من أنصار الجماعة على تقديم استقالاتهم والانخراط في كيانات سياسية أخرى (جلها تصوراتها السياسية أكثر تركيبا من الجماعة). وجاءت لحظة الهزيمة السياسية للإخوان في صيف 2013 مع خروج أعداد ضخمة من المتظاهرين للمطالبة باستقالة الرئيس مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهي اللحظة التي تجلى فيها الفشل السياسي للإخوان وكان التماسك التنظيمي على وشك التلاشي، غير أن التدخل العسكرى في يوليو 2013، والتضييق الإعلامي المصاحب له، وأحداث الحرس الجمهوري التي تلته بأيام، كانت بمثابة قبلة الحياة للإخوان، إذ أعادت التنظيم سريعا لخانة المظلومية، وتمترس أعضاؤه حوله في مسعى للدفاع عن ”الهوية“ كما ظهر في اعتصام رابعة العدوية، والذي كان فضه في 14 أغسطس 2013 علامة فارقة في تاريخ الجماعة، ونقطة تحول كبرى في مسارها.
من التنظيم إلى الفرقة.. رابعة والكربلائية والعنف:
كانت أحداث فض اعتصام رابعة العدوية (والذي أسفر عن مقتل المئات وإصابة الآلاف) صادمة للإخوان، لا من حيث عدد الضحايا فحسب، وإنما من حيث التناول الإعلامي والمجتمعي المرحب بالفض،[1] والخالى تقريبا من أى نقد لاستباحة الدماء على نحو غير مسبوق، الأمر الذي عمَّق مشاعر العزلة والمظلومية عند الإخوان (وهي مشاعر لها جذور تاريخية سبقت الإشارة إليها، وساعد في تأجيجها الخطاب الإخواني في أعقاب عزل الرئيس مرسي)، فأثر عليهم بشكل جذري من جهتين رئيستين:
أما الجهة الأولى فكانت تنظيمية، إذ أدى الغضب الممتزج بالعزلة من جهة، والغياب المفاجئ لمفاصل التنظيم (بسبب الاعتقال أو القتل أو الاختفاء الطوعي والعجز عن إدارة العمل اليومي بشكل تقليدي) من جهة أخرى إلى انتفاء الطابع المؤسسي التقليدى للإخوان، ولم يعد ثمة من يمكنه السيطرة على جسد الجماعة، الذي ظلّ يعبر عن غضبه في الشارع في الأشهر التالية، على نحو أدى – في ظل التعامل الأمني – إلى سقوط متوالٍ للمتظاهرين برصاص الأمن، وبالتالي إبقاء شعلة الغضب متقدة. وأما الجهة الأخرى فكانت فكرية، إذ مثلث أحداث فض اعتصام رابعة وتبعاتها للإخوان لحظة كربلائية، يجرى على أساس الموقف منها تقييم الناس، على نحو تجلى – على سبيل المثال – في الهجوم اللاذع والتبرؤ التام من الدكتور راغب السرجاني (أحد أهم الدعاة المشكلين للوعي الإخواني) بعد تبنيه موقفاً تصالحياً يدعو للتهدئة والقبول بالترتيبات السياسية القائمة في سبتمبر 2014 (رغم أنه في هذا الموقف استخدم ذات المنطق الذي استخدمه في ربيع 2012 لتبرير تراجع الإخوان عن قرارهم بعدم ترشيح أحدهم للرئاسة).
لم تكن أحداث رابعة كربلائية بالمعنى السياسي فحسب، وإنما بالمعنى الديني أيضاً، إذ مكنت نحافة ومرونة التصورات الدينية للجماعة (التي جعلت التنظيم مطلقاً، والمشار إليها في الفقرات السابقة) من رفض أي نصائح «دينية» من كل من تبنى موقفا «سياسياً» مغايراً لموقف الإخوان، فبترت العلاقة (الضعيفة أساساً) بين الإخوان من جهة والمؤسسات الدينية (الأزهر ودار الإفتاء والطرق الصوفية) والدعاة الجدد (وهؤلاء كانوا في السابق أقرب لقواعد الإخوان من تلك المؤسسات) من جهة أخرى، كما أبدت قواعد الإخوان – وبشكل متزايد – حدة أقل، ثم تعاطفاً أكبر، مع الكيانات الدينية التي شاركتها الموقف السياسي، وإن كانت في السابق تحرص على التمايز عنها، ومنها الكيانات المنتهجة للعنف، وبعض التيارات السلفية التي تحمل رؤى اجتماعية مختلفة عن تلك التي يحملها جمهور الإخوان المتشكل بالأساس من الطبقة الوسطى والمهنيين.
وإذا كان الصراع السياسى قد أدى – وفق السردية السنية– إلى تحورات دينية أنتجت «فرقة» الشيعة في أعقاب استشهاد سيدنا الحسين في كربلاء، فإن الآثار المترتبة على رابعة قد تكون صالحة للمقارنة، فالجماعة – التي نما فيها التنظيم خلال رحلتها التاريخية حتى مكنها من تجاوز المنطلقات الكلامية الأشعرية لمؤسسها، ولكنها ظلت مع ذلك تتسم بالغموض أو “المرونة” في هذه الجهة- صارت الآن أكثر عداء للأشاعرة (المتمثلين في تصورات أعضائها في الأزهر)، وأكثر تبنياً للوهابية الاعتقادية، وكذلك فيما يخص التصوف، وصار الموقف من النظام عندها (كما كان الموقف من قضية الإمامة في السابق) ركناً في عقيدتها، توالي وتعادي - دينياً - على أساسة.
ومن هذا المدخل، يمكن تفسير التعاطف المتنامي بين أعضاء الجماعة إزاء العنف، والمتجسد على سبيل المثال في هتاف بعض مجموعاتهم لدولة الخلافة الإسلامية (داعش) خلال مظاهراتهم، وتأييد عدد من كوادرهم الشبابية (مثل أحمد المغير وعبد الرحمن عز وغيرهما) للعمليات الإرهابية التي راح ضحيتها عدد من المجندين في الجيش المصري.
وإذا كانت ثمة أسباب موضوعية – سبقت الإشارة إليها– تدفع بالإخوان في اتجاه العنف على نحو غير مسبوق، فإن ثمة عوائق لاتزال تحول دون انخراطهم الكامل فيه، بعضها – وهو الأقل أهمية – فكري، يتصل بالتصورات الموروثة للجماعة عن نفسها منذ ستينيات القرن المنصرم، حين أسست نفسها إزاء القطبيين (ومن بعدهم الجماعات المسلحة) كحركة معارضة سلمية، والبعض الآخر – وهو الأهم – يتصل بمصالح التنظيم، الذي يدرك – من جهة – أن تبني العنف سينزع عنه أي شرعية يستطيع بها الاحتماء (الجزئي) بالمجتمع الحقوقي الدولي في مواجهة الدولة المستندة لدعم خليجي يسعى للقضاء عليهم، ويدرك – من جهة أخرى – ارتفاع الكلفة الاقتصادية لمثل هذا التبني الذي سيؤدي إلى انقضاض الدولة على المصالح الاقتصادية لقيادات التنظيم من رجال الأعمال، ويدرك – من جهة ثالثة – أن مثل هذا التبني سيؤدي لخسارة كل الاستثمارات الاجتماعية للجماعة، في المدارس والمستشفيات والمؤسسات الخيرية والخدمية وغيرها، والتي يمكن الاستناد إليها في المدى المتوسط والبعيد لاستعادة بعض التأييد الشعبي للجماعة، وهذه الكلفة تتناقص - بطبيعة الحال - بتصعيد النظام هجومه على هذه المؤسسات على كل حال.
وهذا التنازع الداخلي في الإخوان- ما بين الميل المتزايد للعنف من جهة، ومقاومته من جهة أخرى، مرشح – في جميع الأحوال - للاتساع على نحو يؤدى لانقسامات داخلية، غير أن حجم هذه الانقسامات وغلبة أحد التيارين على الآخر سيتحدد على الأرجح وفق معطيات خارجية، أهمها موقف الدولة التي لا تزال تصعد ضد مصالح الإخوان الاقتصادية والاجتماعية على نحو يضعف التيار المقاوم للالتجاء للعنف، ولا تزال تؤجل خطوة المصالحة (القادمة لا محالة، بقطع النظر عن الشروط أو
التوقيت) على نحو يؤدي لاتساع مساحة الانقسام الداخلي.
مفترق الطرق ... أسئلة وخيارات المستقبل:
لم يعد مصير جماعة الإخوان مرهوناً بإرادة قياداتها وحدهم، وقد اختاروا في صيف 2013 التصعيد للحفاظ على التماسك التنظيمي، بل صارت كل الخيارات المستقبلية مفتوحة، ويحكمها ما يلي:
الظرف السياسى العام، والذي قد يدفع بالنظام الحاكم – في ظل تردي الخدمات وتراجع التأييد الشعبى الذي حازه في أيامه الأولى – إلى أحد اتجاهين: المصالحة بغية الاستقرار أملاً في انتعاش اقتصادي، أو التصعيد واستمرار المواجهة واستدعاء الإخوان كعدو يسهل بوجوده تأجيل الاحتجاج وتبرير الفشل.
قدرة قيادات الإخوان على السيطرة على قواعدهم، وهي القواعد التي فقدت قسطاً كبيراً من شرعيتها خلال فترة حكم الجماعة، وإذا كانت الأحداث اللاحقة لخروجهم من الحكم (كاعتقال بعضهم، ومقتل ذوي البعض الآخر) قد أعادت لهم قدراً كبيراً من هذه الشرعية، فإن استمرار المواجهات والغضب وسقوط الضحايا يبقي التنظيم في حالة سيولة، يصعب على أي قيادة معها السيطرة على، أو توجيه القواعد.
قدرة الإخوان على الاستفادة من تراجع شعبية النظام وما قد ينتج عنه من حراك اجتماعي وسياسي، وهو أمر تحول دونه عوائق أولها فشل الإخوان في الحكم، وثانيها هيمنة الخطاب الإعلامي الذي يحملهم مسئولية ”كل“ التراجع الاقتصادي والأمني والسياسي على نحو يجعلهم الخيار الأكثر سوءا مقارنة بالنظام الحالي، وثالثها تراجع الإخوان خلال حكمهم عن وعود قطعوها على أنفسهم تجاه الأطراف السياسية المختلفة على نحو شكل أزمة ثقة عميقة بينهم وبين الأطراف الأخرى، ورابعها تحفز الإخوان إزاء هذه الأطراف وشعورهم بالخيانة بسبب المواقف المتخاذلة لجل هذه التيارات خلال الأحداث التي وقعت في صيف 2013 وما تلاها، وخامسها فقر الخيال السياسى للإخوان، والذي لا يتصور – بسبب الحتمية الدينية المشار إليها- وجوداً حقيقياً لأطراف سياسية سواه، فاليوتوبيا الإخوانية فيها أماكن للقضاء والجيش والشرطة (بعد ”تطهيرها“، بمعنى استبدال قياداتها وربما أفرادها الفاسدين بآخرين من أهل الثقة والأخلاق، لا بمعنى إعادة هيكلتها)، غير أنه لا مكان فيها للمعارضة، التي ينظر إليها دوما بريبة، فهي إما نفعية، أو معادية للدين (ستندثر بوجود حكم إسلامي رشيد يستوعبها أو يهمشها)، وسادسها إصرار الجماعة على تصدر المشهد السياسي وتحويل حراكه لرصيد تنظيمي (كما حدث على سبيل المثال في المظاهرات الطلابية)، مستندة في ذلك إلى كثرة عددية عاجزة عن رؤية ما يتطلبه تغيير المعادلة السياسية من تنوع كيفي – لا فقط كثرة عددية – للساعين إليه، ذلك على الرغم من أن النجاح السياسي الأكبر، وربما الأوحد، للجماعة، جاء في اللحظة التي تركت فيها تصدر المشهد وتوجيهه لغيرها، واكتفت – على لحاقها بهم- بالمشاركة الندية، في يناير وفبراير ٢٠١١.
(يعاد نشر المادة ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"الملف المصري" الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)
(١)
يزعم كاتب هذه الورقة أن ثمة خطاباً تسيد الإعلام خلال الأسابيع القليلة السابقة لعزل مرسي واستمر بعدها، لم يكن نقد للإخوان متعلقاً بمشروعهم السياسي، وإنما بكونهم ”إخوانًا“، وتبنى هذا الخطاب منطقاً جوهرانياً، نزع عن الإخوان إنسانيتهم، ونعتهم بشكل متزايد بالخرفان، وبالغ في التخويف منهم، حتى وصل الأمر على سبيل المثال ببعض الصحف الحكومية لأن تزعم في صفحتها الأولى أن المعتصمين في رابعة العدوية لديهم أسلحة كيماوية، وهذا الخطاب ساهم لا فقط في عزل الإخوان مجتمعياً وسياسياً، وإنما أيضا في تسويغ قتلهم، بعد نزع إنسانيتهم بالكامل.